فصل: سنة ست وعشرين وخمسمائة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ (نسخة منقحة)



.ذكر عدة حوادث:

في هذه السنة توفيت الخاتون ابنة السلطان سنجر، وهي زوجة السلطان محمود.
وفيها قتل بيمند الفرنجي صاحب أنطاكية.
وفيها توفي نصير الدين محمود بن مؤيد الملك بن نظام الملك، في شعبان، ببغداد، ووقع الحريق في داره بعد وفاته، وفي حظائر الحطب، والسوق التتشي، فذهب من الناس أموال كثيرة.
وفيها وزر الرئيس أبو الذواد المفرج بن الحسن بن الصوفي لصاحب دمشق تاج الملوك.
وفيها كان الرصد بالدار السلطانية، شرقي بغداد، تولاه البديع الاصطرلابي، ولم يتم.
وفيها ظهر ببغداد عقارب طيارة ذوات شوكتين، فنال الناس منها خوف شديد، وأذى عظيم.
وفيها، في ذي الحجة، خرج الملك مسعود بن محمد من خراسان، وكان عند عمه السلطان سنجر، ووصل إلى ساوة، ووقع الإرجاف أن عزمه على مخالفة أخيه السلطان محمود قوي، وأن عمه سنجر أمره بذلك، فاستشعر السلطان محمود، وسار عن بغداد إلى همذان، فلما وصل إلى كرمانشاهان وصل إليه أخوه الملك مسعود وخدمه، ولم يظهر للإرجاف أثر، فأقطعه السلطان مدينة كنجة وأعمالها وسيره إليها.
وفيها كانت زلزلة عظيمة، في ربيع الأول، بالعراق، وبلد الجبل، والموصل، والجزيرة، فخربت كثيراً.
وفيها ملك السلطان محمود قلعة ألموت.
وفيها توفي إبراهيم بن عثمان بن محمد أبو إسحاق الغزي من أهل غزة، مدينة بفلسطين من الشام، ومولده سنة إحدى وأربعين وأربعمائة، وهو من الشعراء المجيدين، فمن قوله من قصيدة يصف فيها الأتراك:
في فتية من جيوش الترك ما تركت ** للرعد كراتهم صوتاً ولا صيتا

قوم إذا قوبلوا كانوا ملائكةً ** حسناً، وإن قوتلوا كانوا عفاريتا

وله في الزهد:
إنما هذه الحياة متاع، ** والسفيه الغوي من يصطفيها

ما مضى فات والمؤمل غيبٌ ** ولك الساعة التي أنت فيها

وفيها توفي الحسين بن محمد بن عبد الوهاب بن أحمد بن محمد الدباس ابو عبد الله النحوي، الشاعر، المعروف بالبارع، أخو أبي الكرم بن فاخر النحوي لأمه، ولد سنة ثلاث وأربعين وأربعمائة، وله شعر مليح، فمنه قوله:
ردي علي الكرى ثم اهجري سكني ** فقد قنعت بطيف منك في الوسن

لا تحسبي النوم قد أوشحت أطلبه، ** إلا رجاء خيال منك يؤنسني

تركتني والهوى فرداً أغالبه، ** ونام ليلك عن هم يؤرقني

وهي طويلة.
وفيها توفي هبة الله بن القاسم بن محمد بن عطا بن محمد أبو سعد المهرواني، النيسابوري، ومولده سنة إحدى وثلاثين وأربعمائة، وكان محدثاً، حافظاً، صالحاً. ثم دخلت:

.سنة خمس وعشرين وخمسمائة:

.ذكر أسر دبيس بن صدقة وتسليمه إلى عماد الدين زنكي:

في هذه السنة، في شعبان، أسر تاج الملوك بوري بن طغتكين، صاحب دمشق، الأمير دبيس بن صدقة، صاحب الحلة، وسلمه إلى أتابك الشهيد زنكي بن آقسنقر.
وسبب ذلك: أنه لما فارق البصرة، على ما ذكرناه، جاءه قاصد من الشام، من صرخد، يستدعيه إليها، لأن صاحبها كان خصياً، فتوفي هذه السنة، وخلف جارية سرية له، فاستولت على القلعة وما فيها، وعلمت أنها لا يتم لها ذلك إلا بأن تتصل برجل له قوة ونجدة، فوصف لها دبيس بن صدقة وكثرة عشيرته، وذكر لها حاله، وما هو عليه بالعراق، فأرسلت تدعوه إلى صرخد لتتزوج به، وتسلم القلعة وما فيها من مال وغيره إليه. فأخذ الأدلاء معه، وسار من أرض العراق إلى الشام، فضل به الأدلاء بنواحي دمشق، فنزل بناس من كلب كانوا شرقي الغوطة، فأخذوه وحملوه إلى تاج الملوك، صاحب دمشق، فحبسه عنده.
وسمع أتابك عماد الدين زنكي الخبر، وكان دبيس يقع فيه وينال منه، فأرسل إلى تاج الملوك يطلب منه دبيساً ليسلمه إليه، ويطلق ولده، ومن معه من الأمراء المأسورين، وإن امتنع من تسليمه سار إلى دمشق وحصرها وخربها ونهب بلدها، فأجاب تاج الملوك إلى ذلك، وأرسل أتابك سونج بن تاج الملوك، والأمراء الذين معه، وأرسل تاج الملوك دبيساً، فأيقن دبيس بالهلاك، ففعل زنكي معه خلاف ما ظن، وأحسن إليه، وحمل له الأقوات، والسلاح والدواب وسائر أمتعة الخزائن، وقدمه حتى على نفسه، وفعل معه ما يفعل أكابر الملوك.
ولما سمع المسترشد بالله بقبضه بدمشق أرسل سديد الدولة بن الأنباري، وأبا بكر بن بشر الجزري، من جزيرة ابن عمر، إلى تاج الملوك يطلب منه أن يسلم دبيساً إليه، لما كان متحققاً به من عداوة الخليفة، فسمع سديد الدولة ابن الأنباري بتسليمه إلى عماد الدين، وهو في الطريق، فسار إلى دمشق ولم يرجع، وذم أتابك زنكي بدمشق، واستخف به، وبلغ الخبر عماد الدين، فأرسل إلى طريقه من يأخذه إذا عاد، فلما رجع من دمشق قبضوا عليه، وعلى ابن بشر، وحملوهما إليه، فأما ابن بشر فأهانه وجرى في حقه مكروه، وأما ابن الأنباري فسجنه.
ثم إن المسترشد بالله شفع فيه فأطلق، ولم يزل دبيس مع زنكي حتى انحدر معه إلى العراق، على ما نذكره إن شاء الله تعالى.

.ذكر وفاة السلطان محمود وملك ابنه داود:

في هذه السنة، في شوال، توفي السلطان محمود ابن السلطان محمد بهمذان، وكان قبل مرضه قد خاف وزيره أبو القاسم الأنساباذي من جماعة من الأمراء وأعيان الدولة، منهم: عزيز الدين أبو نصر أحمد بن حامد المستوفي، والأمير أنوشتكين المعروف بشيركير، وولده عمر، وهو أمير حاجب السلطان، وغيرهم، فأما عزيز الدين فأرسله مقبوضاً عليه إلى مجاهد الدين بهروز بتكريت، ثم قتل بها، وأما شيركير وولده فقتلا في جمادى الآخرة.
ثم إن السلطان مرض وتوفي في شوال، وأقعد ولده الملك داود في السلطنة باتفاق من الوزير أبي القاسم وأتابكه آقسنقر الأحمديلي، وخطب له في جميع بلاد الجبل وأذربيجان، ووقعت الفتنة بهمذان وسائر بلاد الجبل، ثم سكنت، فلما اطمأن الناس وسكنوا سار الوزير بأمواله إلى الري، فأمن فيها حيث هي للسلطان سنجر.
وكان عمر السلطان محمود لما توفي نحو سبع وعشرين سنة، وكانت ولايته للسلطنة اثنتي عشرة سنة وتسعة أشهر وعشرين يوماً، وكان حليماً، كريماً، عاقلاً، يسمع ما يكره ولا يعاقب عليه، مع القدرة، قليل الطمع في أموال الرعايا، عفيفاً عنها، كافاً لأصحابه عن التطرق إلى شيء منها.

.ذكر عدة حوادث:

في هذه السنة ثار الباطنية بتاج الملوك بوري بن طغتكين، صاحب دمشق، فجرحوه جرحين، فبرأ أحدهما، وتنسر الآخر، وبقي فيه ألمه، إلا أنه يجلس للناس، ويركب معهم على ضعف فيه.
وفيها توفي الأمير أبو الحسن بن المستظهر بالله أخو المسترشد بالله في رجب.
وفيها، في شوال، توفي الحسن بن سليمان بن عبد الله أبو علي الفقيه الشافعي الواعظ، مدرس النظامية ببغداد، وأصله من الزوزان.
والخطيب أبو نصر أحمد بن عبد القاهر المعروف بابن الطوسي، خطيب الموصل، توفي في ربيع الأول.
وحماد بن مسلم الدباس الرحبي الزاهد المشهور، صاحب الكرامات، وسمع الحديث، وله أصحاب وتلامذة كثيرون ساروا، ورأيت الشيخ أبا الفرج بن الجوزي قد ذمه وثلبه، ولهذا الشيخ أسوة بغيره من الصالحين، فإن ابن الجوزي قد صنف كتاباً سماه تلبيس إبليس لم يبق فيه على أحد من سادة المسلمين وصالحيهم.
وهبة الله بن محمد بن عبد الواحد بن الحصين الشيباني الكاتب، ومولده سنة اثنتين وثلاثين وأربعمائة، سمع أبا علي بن المهذب، وأبا طالب بن غيلان وغيرهما، وهو راوي مسند أحمد بن حنبل والغيلانيات وغيرهما.
ومحمد بن الحسن بن علي بن الحسن أبو غالب الماوردي، ولد سنة خمسين وأربعمائة بالبصرة، وسمع الحديث الكثير، وروى سنن أبي داود السجستاني، وكان صالحاً. ثم دخلت:

.سنة ست وعشرين وخمسمائة:

.ذكر قتل أبي علي وزير الحافظ ووزارة يانس وموته:

في هذه السنة، في المحرم، قتل الأفضل أبو علي بن الأفضل بن بدر الجمالي وزير الحافظ لدين الله العلوي، صاحب مصر.
وسبب قتله: أنه كان قد حجر على الحافظ، ومنعه أن يحكم في شيء من الأمور، قليل أو جليل، وأخذ ما في قصر الخلافة إلى داره، وأسقط من الدعاء ذكر إسماعيل الذي هو جدهم، وإليه تنسب الإسماعيلية، وهو ابن جعفر بن محمد الصادق، وأسقط من الأذان حي على خير العمل، ولم يخطب للحافظ، وأمر الخطباء أن يخطبوا له بألقاب كتبها لهم، وهي: السيد الأفضل الأجل، سيد مماليك أرباب الدول، والمحامي عن حوزة الدين، وناشر جناح العدل على المسلمين الأقربين والأبعدين، ناصر إمام الحق في حالتي غيبته وحضوره، والقائم بنصرته بماضي سيفه وصائب رأيه وتدبيره، أمين الله على عباده، وهادي القضاة إلى اتباع شرع الحق واعتماده، ومرشد دعاة المؤمنين بواضح بيانه وإرشاده، مولى النعم، ورافع الجور عن الأمم، ومالك فضيلتي السيف والقلم، أبو علي أحمد بن السيد الأجل الأفضل، شاهنشاه أمير الجيوش.
وكان إمامي المذهب، يكثر ذم الآمر، والتناقص به، فنفرت منه شيعة العلويين ومماليكهم، وكرهوه، وعزموا على قتله، فخرج في العشرين من المحرم من هذه السنة إلى الميدان يلعب بالكرة مع أصحابه، فكمن له جماعة منهم مملوك فرنجي كان للحافظ، فخرجوا عليه، فحمل الفرنجي عليه، فطعنه فقتله، وحزوا رأسه، وخرج الحافظ من الخزانة التي كان فيها، ونهب الناس دار أبي علي، وأخذ منها ما لا يحصى، وركب الناس والحافظ إلى داره، فأخذ ما بقي فيها وحمله إلى القصر.
وبويع يومئذ الحافظ بالخلافة، وكان قد بويع له بولاية العهد، وأن يكون كافلاً لحمل إن كان للآمر، فلما بويع بالخلافة استوزر أبا الفتح يانس الحافظي في ذلك اليوم بعينه، ولقب أمير الجيوش، وكان عظيم الهيبة، بعيد الغور، كثير الشر، فخافه الحافظ على نفسه، وتخيل منه أنس، فاحتاط، ولم يأكل عنده شيئاً، ولا شرب، فاحتال عليه الحافظ بأن وضع له فراشه في بيت الطهارة ماء مسموماً، فاغتسل به، فوقع الدود في سفله، وقيل له: متى قمت من مكانك هلكت، فكان يعالج بأن يجعل اللحم الطري في المحل، فيعلق به الدود فيخرج ويجعل عوضه، فقارب الشفاء، فقيل للحافظ: إنه قد صلح، وإن تحرك هلك، فركب إليه الحافظ كأنه يعوده، فقام له ومشى إلى بين يديه، وقعد الحافظ عنده، ثم خرج من عنده، فتوفي من ليلته، وكان موته في السادس والعشرين من ذي الحجة من هذه السنة.
ولما مات يانس استوزر الحافظ ابنه حسناً، وخطبه له بولاية العهد، وسيرد ذكر قتله سنة تسع وعشرين.
وإنما ذكرت ألقاب أبي علي تعجباً منها، ومن حماقة ذلك الرجل، فإن وزير صاحب مصر وحدها إذا كان هكذا فينبغي أن يكون وزير السلاطين السلجوقية كنظام الملك وغيره يدعون الربوبية، على أن تربة مصر هكذا تولد، ألا ترى إلى فرعون يقول: {أنا ربكم الأعلى} وإلى أشياء أخر لا نطيل ذكرها.

.ذكر حال السلطان مسعود والملكين سلجوقشاه وداود واستقرار السلطنة بالعراق لمسعود:

لما توفي السلطان محمود ابن السلطان محمد، وخطب، ببلاد الجبل وأذربيجان، لولده الملك داود، على ما ذكرناه، سار الملك داود من همذان في ذي القعدة من سنة خمس وعشرين إلى زنجان، فأتاه الخبر أن عمه السلطان مسعوداً قد سار من جرجان ووصل إلى تبريز واستولى عليها، فسار الملك داود إليه وحصره بها، وجرى بينهما قتال، إلى سلخ المحرم سنة ست وعشرين ثم اصطلحا.
وتأخر الملك داود مرحلة، وخرج السلطان مسعود من تبريز، واجتمع عليه العساكر، وسار إلى همذان، وأرسل يطلب الخطبة ببغداد، وكانت رسل الملك داود قد تقدمت في طلب الخطبة، فأجاب المسترشد بالله أن الحكم في الخطبة إلى السلطان سنجر من أراد خطب له، وأرسل إلى السلطان سنجر أن لا يأذن لأحد في الخطبة، فإن الخطبة ينبغي أن تكون له وحده، فوقع ذلك منه موقعاً حسناً.
ثم إن السلطان مسعوداً كاتب عماد الدين زنكي، صاحب الموصل وغيرها، يستنجده، ويطلب مساعدته، فوعده النصر، فقويت بذلك نفس مسعود على طلب السلطنة.
ثم إن الملك سلجوقشاه ابن السلطان محمد سار أتابكه قراجة الساقي، صابح فارس وخوزستان، في عسكر كثير إلى بغداد، فوصل إليها قبل وصول السلطان مسعود، ونزل في دار السلطان، وأكرمه الخليفة، واستحلفه لنفسه.
ثم وصل رسول السلطان مسعود يطلب الخطبة، ويتهدد إن منعها، فلم يجب إلى ما طلبه، فسار حتى نزل عباسية الخالص، وبرز عسكر الخليفة وعسكر سلجوقشاه وقراجة الساقي نحو مسعود إلى أن يفرغ من حرب أتابك عماد الدين زنكي، وسار يوماً وليلة إلى المعشوق، وواقع عماد الدين زنكي فهزمه، وأسر كثيراً من أصحابه، وسار زنكي منهزماً إلى تكريت، فعبر فيها دجلة، وكان الدزدار بها حينئذ نجم الدين أيوب، فأقام له المعابر، فلما عبر أمن الطلب، وسار إلى بلاده لإصلاح حاله وحال رجاله، وهذا الفعل من نجم الدين أيوب كان سبباً لاتصاله به والمصير في جملته، حتى آل بهم الأمر إلى ملك مصر والشام وغيرهما على ما نذكره.
وأما السلطان مسعود فإنه سار من العباسية إلى الملكية، ووقعت الطلائع بعضها على بعض، ثم لم تزل المناوشة تجري بينه وبين أخيه سلجوقشاه يومين.
وأرسل سلجوقشاه إلى قراجة يستحثه على المبادرة، فعاد سريعاً وعبر دجلة إلى الجانب الشرقي، فلما علم السلطان مسعود بانهزام عماد الدين زنكي رجع إلى ورائه، وأرسل إلى الخليفة يعرفه وصول السلطان سنجر إلى الري، وأنه عازم على قصد الخليفة وغيره، وإن رأيتم أن نتفق على قتاله ودفعه عن العراق، ويكون العراق لوكيل الخليفة، فأنا موافق على ذلك. فأعاد الخليفة الجواب يستوقفه.
وترددت الرسل في الصلح، فاصطلحوا على أن يكون العراق لوكيل الخليفة، وتكون السلطنة لمسعود، ويكون سلجوقشاه ولي عهده، وتحالفوا على ذلك، وعاد السلطان مسعود إلى بغداد، فنزل بدار السلطان، ونزل سلجوقشاه في دار الشحنكية، وكان اجتماعهم في جمادى الأولى.

.ذكر الحرب بين السلطان مسعود وعمه السلطان سنجر:

لما توفي السلطان محمود سار السلطان سنجر إلى بلاد الجبال، ومعه الملك طغرل ابن السلطان محمد، وكان عنده قد لازمه، فوصل إلى الري، ثم سار منها إلى همذان، فوصل الخبر إلى الخليفة المسترشد بالله والسلطان مسعود بوصوله إلى همذان، فاستقرت القاعدة بينهما على قتاله، وأن يكون الخليفة معهم، وتجهز الخليفة، فتقدم قراجة الساقي، والسلطان مسعود، وسلجوقشاه نحو السلطان سنجر، وتأخر المسترشد بالله عن المسير معهم، فأرسل إلى قراجة، وألزمه، وقال: إن الذي تخاف من سنجر آجلاً أنا أفعله عاجلاً. فبرز حينئذ وسار على تريث، وتوقف إلى أن بلغ إلى خانقين وأقام بها.
وقطعت خطبة سنجر من العراق جميعه، ووصلت الأخبار بوصول عماد الدين زنكي ودبيس بن صدقة إلى قريب بغداد، فأما دبيس فإنه ذكر أن السلطان سنجر أقطعه الحلة، وأرسل إلى المسترشد بالله يضرع ويسأل الرضا عنه، فامتنع من إجابته إلى ذلك.
وأما عماد الدين زنكي فإنه ذكر أن السلطان سنجر قد أعطاه شحنكية بغداد، فعاد المسترشد بالله إلى بغداد، وأمر أهلها بالاستعداد للمدافعة عنها، وجند أجناداً جعلهم معهم.
ثم إن السلطان مسعوداً وصل إلى دادمرج، فلقيهم طلائع السلطان سنجر في خلق كثير، فتأخر السلطان مسعود إلى كرمانشاهان، ونزل السلطان سنجر في أسداباذ في مائة ألف فارس، فسار مسعود وأخوه سلجوقشاه إلى جبلين يقال لهما: كاو، وماهي، فنزلا بينهما، ونزل السلطان سنجر وكنكور، فلما سمع بانحرافهم أسرع في طلبهم، فرجعوا إلى ورائهم مسيرة أربعة أيام في يوم وليلة، فالتقى العسكران بعولان، عند الدينور، وكان مسعود يدافع الحرب انتظاراً لقدوم المسترشد، فلما نازله السلطان سنجر لم يجدا من المصاف، وجعل سنجر على ميمنته طغرل ابن أخيه محمد، وقماج، وأمير أميران، وعلى ميسرته خوارزمشاه أتسز بن محمد مع جمع من الأمراء، وجعل مسعود على ميمنته قراجة الساقي، والأمير قزل، وعلى ميسرته يرنقش بازدار، ويوسف جاووش، وغيرهما، وكان قزل قد واطأ سنجر على الانهزام.
ووقعت الحرب، وقامت على ساق، وكان يوماً مشهوداً، فحمل قراجة الساقي على القلب، وفيه السلطان سنجر في عشرة آلاف فارس من شجعان العسكر، وبين يديه الفيلة، فلما حمل قراجة على القلب، رجع الملك طغرل، وخوارزمشاه إلى وراء ظهره، فصار قراجة في الوسط، فقاتل إلى أن جرح عدة جراحات، وقتل كثير من أصحابه وأخذ هو أسيراً وبه جراحات كثيرة، فلما رأى السلطان مسعود ذلك انهزم وسلم من المعركة، وقتل يوسف جاووش، وحسنين أزبك، وهما من أكابر الأمراء، وكانت الوقعة ثامن رجب من هذه السنة.
فلما تمت الهزيمة على مسعود نزل سنجر وأحضر قراجة، فلما حضر قراجة سبه وقال له: يا مفسد أي شيء كنت ترجو بقتالي؟ قال: كنت أرجو أن أقتلك وأقيم سلطاناً أحكم عليه. فقتله صبراً، وأرسل إلى السلطان مسعود يستدعيه، فحضر عنده، وكان قد بلغ خونج، فلما رآه قبله، وأكرمه، وعاتبه على العصيان عليه، ومخالفته، وأعاده إلى كنجة، وأجلس الملك طغرل ابن أخيه محمد في السلطنة، وخطب له في جميع البلاد، وجعل في وزارته أبا القاسم الأنساباذي، وزير السلطان محمود، وعاد إلى خراسان، فوصل إلى نيسابور في العشرين من رمضان سنة ست وعشرين.
وأما المسترشد بالله فكان منه ما نذكره.

.ذكر مسير عماد الدين إلى بغداد:

لما سار المسترشد بالله من بغداد، وبلغه انهزام السلطان مسعود، عزم على العود إلى بغداد، فأتاه الخبر بوصول عماد الدين زنكي إلى بغداد، ومعه دبيس بن صدقة، وكان السلطان سنجر قد كاتبهما، وأمرهما بقصد العراق، والاستيلاء عليه فلما علم الخليفة بذلك أسرع العود إليها، وعبر إلى الجانب الغربي، وسار فنزل بالعباسية، ونزل عماد الدين بالمنارية من دجيل، والتقيا بحصن البرامكة في السابع والعشرين من رجب، فابتدأ زنكي فحمل على ميمنة الخليفة، وبها جمال الدولة إقبال، فانهزموا منه، وحمل نظر الخادم من ميسرة الخليفة على ميمنة عماد الدين ودبيس، وحمل الخليفة بنفسه، واشتد القتال، فانهزم دبيس، وأراد عماد الدين الصبر، فرأى الناس قد تفرقوا عنه، فانهزم أيضاً، وقتل من العسكر جماعة، وأسر جماعة، وبات الخليفة هناك ليلته، وعاد من الغد إلى بغداد.

.ذكر حال دبيس بعد الهزيمة:

وفيها عاد دبيس، بعد انهزامه المذكور، يلوذ ببلاد الحلة وتلك النواحي، وجمع جمعاً، وكانت تلك الولاية بيد إقبال المسترشدي، فأمد بعسكر من بغداد، فالتقى هو ودبيس، فانهزم دبيس واختفى في أجمة هناك، وبقي ثلاثة أيام لم يطعم شيئاً، ولم يقدر على التخلص منها، حتى أخرجه حمّاس على ظهره.
ثم جمع جمعاً وقصد واسط، وانضم إليه عسكرها، وبختيار وشاق، وابن أبي الجبر، ولم يزل فيها إلى أن دخلت سنة سبع وعشرين، فنفذ إليهم يرنقش بازدار، وأقبال الخادم المسترشدي، في عسكر، فاقتتلوا في الماء والبر، فانهزم الواسطيون ودبيس، وأسر بختيار وشاق وغيره من الأمراء.

.ذكر وفاة تاج الملوك صاحب دمشق:

في هذه السنة، في رجب، توفي تاج الملوك بوري بن طغتكين، صاحب دمشق.
وسبب موته أن الجرح الذي كان به من الباطنية، وقد ذكرناه، اشتد عليه الآن، وأضعفه، وأسقط قوته، فتوفي في الحادي والعشرين من رجب، ووصى بالملك بعده لولده شمس الملوك إسماعيل، ووصى بمدينة بعلبك وأعمالها لولده شمس الدولة محمد.
وكان بوري كثير الجهاد، شجاعاً، مقدماً، سد مسد أبيه، وفاق عليه، وكان ممدحاً، أكثر الشعراء مدائحه، لا سيما ابن الخياط، وملك بعده ابنه شمس الملوك، وقام بتدبير الأمر بني يديه الحاجب يوسف بن فيروز، شحنة دمشق، وهو حاجب أبيه، واعتمد عليه، وابتدأ أمره بالرفق بالرعية، والإحسان إليهم، فكثر الدعاء له والقصاد عليه.

.ذكر ملك شمس الملوك حصن اللبوة وحصن رأس وحصره بعلبك:

في هذه السنة ملك شمس الملوك إسماعيل، صاحب دمشق، حصن اللبوة، حصن راس.
وسبب ذلك: أنهما كانا لأبيه تاج الملوك، وفي كل واحد منهما مستحفظ يحفظه، فلما ملك شمس الملوك بلغه أن أخاه شمس الدولة محمداً، صاحب بعلبك، قد راسلهما، واستمالهما إليه، فسلما الحصنين إليه، وجعل فيهما من الجند ما يكفيهما، فلم يظهر بذلك أثر بل راسل أخاه بلطف يقبح هذه الحال، ويطلب أن يعيدهما إليه، فلم يفعل، فأغضى على ذلك، وتجهز من غير أن يعلم أحداً.
وسار هو وعسكره، آخر ذي القعدة، فطلب جهة الشمال، ثم عاد مغرباً، فلم يشعر من بحصن اللبوة إلا وقد نزل عليهم، وزحف لوقته، فلم يتمكنوا من نصب منجنيق ولا غيره، فطلبوا الأمان، فبذله لهم، وتسلم الحصن من يومه، وسار من آخر النهار إلى حصن راس، فبغتهم، وجرى الأمر فيه على تلك القضية، وتسلمه، وجعل فيهما من يحفظهما.
ثم رحل إلى بعلبك وحصرها، وفيها أخوه شمس الدولة محمد، وقد استعد، وجمع في الحصن ما يحتاج إليه من رجال وذخائر، فحصرهم شمس الملوك، وزحف في الفارس والراجل، وقاتله أهل البلد على السور، ثم زحف عدة مرات، فملك البلد بعد قتال شديد، وقتلى كثيرة، وبقي الحصن، فقاتله، وفيه أخوه، ونصب المجانيق، ولازم القتال، فلما رأى أخوه شمس الدولة شدة الأمر أرسل يبذل الطاعة، ويسأل أن يقر على ما بيده، وجعله أبوه باسمه، فأجابه إلى مطلوبه، وأقر عليه بعلبك وأعمالها، وتحالفوا وعاد شمس الملوك إلى دمشق وقد استقامت له الأمور.

.ذكر الحرب بين السلطان طغرل والملك داود:

في هذه السنة، في رمضان، كانت الحرب بين الملك طغرل وبين أخيه الملك داود بن محمود، وكان سببها: أن السلطان سنجر أجلس الملك طغرل في السلطنة، كما ذكرناه، وعاد إلى خراسان لأنه بلغه أن صاحب ما وراء النهر أحمد خان قد عصى عليه، فبادر إلى العود لتلافي ذلك الخرق، فلما عاد إلى خراسان عصى الملك داود على عمه طغرل، وخالفه، وجمع العساكر بأذربيجان، وبلاد كنجة، وسار إلى همذان، فنزل، مستهل رمضان، عند قرية يقال لها وهان، بقرب همذان.
وخرج إليه طغرل، وعبأ كل واحد منهما أصحابه ميمنة وميسرة، وكان على ميمنة السلطان طغرل ابن برسق، وعلى ميسرته قزل، وعلى مقدمته قراسنقر، وكان على ميمنة داود يرنقش الزكوي، ولم يقاتل، فلما رأى التركمان ذلك نهبوا خيمه وبركه جميعه، ووقع الخلف في عسكر داود، فلما رأى أتابكه آقسنقر الأحمديلي ذلك ولى هرباً، وتبعه الناس في الهزيمة، وقبض طغرل على يرنقش الزكوي، وعلى جماعة من الأمراء.
وأما الملك داود فإنه لما انهزم بقي متحيزاً إلى أوائل ذي القعدة، فقدم بغداد ومعه أتابكه آقسنقر الأحمديلي، فأكرمه الخليفة وأنزله بدار السلطان، وكان الملك مسعود بكنجة، فلما سمع بانهزام الملك داود توجه نحو بغداد، على ما نذكره إن شاء الله تعالى.